هل باتت ولاية الفقيه في إيران على كف عفريت؟!



هل باتت ولاية الفقيه في إيران على كف عفريت؟!


الصراع الحالي في إيران ليس صراعا بين تيارين أيديولوجيين متعارضين أحدهما يحمل فكرا غربيا منفتحا معارضا للثورة " الإصلاحيين" وآخر يحمل فكرا إسلاميا شيعيا منغلقا وكل همه الحفاظ على هذه الثورة " المحافظين "، كون المشرب واحد والسيرة واحدة لكلا الفريقين المتنازعين.
فالفريقان تخرجا من مدرسة فكرية واحدة، ويحملان نفس الفكر والعقيدة، وكلاهما يزايد على الآخر من حيث التمسك بأفكار الثورة الخمينية، والأمن القومي، واستقرار الجمهورية "الإسلامية" وعمودها الفقري "ولاية الفقيه"، ويرفع شعار رفاهية الشعب الإيراني، وكلاهما يسعي نحو إيران قوية سياسيا واقتصاديا وعسكريا ونوويا. وبمعنى آخر فإن الطرفين المتصارعين هما وجهان لعملة واحدة، والصراع بينهما هو من قبيل " صراع العقارب " -كما شبهت ذلك المعارضة الإيرانية في الخارج، ويأتي ذلك الصراع في إطار الاحتجاج على استئثار أحد الأطراف بقيادة الدولة الإيرانية- وهو هنا المرشد العام علي خامنئي- دون غيره، وأيضا في إطار التنافس حول من هو الأكفأ لتحقيق الأهداف التي قامت من أجلها ثورة الخميني.

جذور الأزمة الإيرانية

وصل علي خامنئي إلى موقع مرشد الجمهورية " الإسلامية " أعلى منصب رسمي في إيران، بعد وفاة قائد الثورة ومؤسس الجمهورية الإيرانية الحالية، آية الله الخميني عام 1989.
وقد تم تعيينه في هذا المنصب من خلال وصية مثيرة للجدل نسبت للإمام الخميني، باعتباره الولي الفقيه نائب الإمام الغائب المعصوم، الذي اختفى في سرداب سامراء في القرن الثالث الهجري، رغم كون خامنئي، عشية وفاة الخميني لم يكن جامعا للشرائط التي تصبغ عليه صفة المجتهد أو المرجع، أي لم يكن من ثم هو الأحق بمنصب الولي الفقيه، لكنها السياسة هي التي جاءت به تحت عنوان الشرعية الثورية، التي حكمت إيران. وهكذا أعطي خامنئي صفة المرشد، ولم يكن ممكنًا تسميته مرجعًا، فلكل من هذين الموقعين مواصفات مختلفة.
ويعتقد كثيرون في النظام الإيراني أن انتساب السيد علي خامنئي إلى آل البيت هو الذي أهّله لأن يكون خليفة للإمام الخميني عام 1989 (عمة سوداء)، رغم وجود العشرات من الفقهاء الأكثر منه علماً واجتهاداً وتقليداً ومرجعية، في إيران آنذاك، كالشيخ حسين منتظري، وأيضا الأبرز منه سياسياً وجماهيرياً وقرباً من الإمام الخميني كالشيخ هاشمي رفسنجاني.
وفضلا عن ذلك، وعلى الرغم من أن علي خامنئي كان أحد العلماء الذين أعتمد عليهم آية الله الخميني في الوصول إلى السلطة عام 1979، ورغم كونه عند توليه منصب المرشد لم يكن بعيدا عن السلطة وشئون الحكم، إذ سبق له أن تولى منصب رئاسة الجمهورية لفترتين رئاسيتين متتاليتين في حياة خميني ( 1981 - 1989)، فإن شخصية علي خامنئي المرشد الجديد، لم تكن مثل شخصية الإمام آية الله الخميني، ولم يكن يملك كاريزما آية الله الخميني وقوته للسيطرة على المؤسسة الدينية، وهو لهذا وذاك قد اعتمد على كل من وزارة المخابرات والحرس الثوري. وفي نفس الوقت أقام بيروقراطية قوية موالية له يتحكم من خلالها في كافة مفاصل أجهزة الدولة ومؤسساتها.
وللحفاظ على السلطة عمل هذا المرشد على أحدث توازن بين الحرس الثوري ووزارة المخابرات، ليعطي ثقلا للمؤسسات الأمنية، وأضفى على الحرس الثوري ووزارة المخابرات قوة تمتد إلى خارج المؤسستين. وادخلهما في العملية السياسية والاقتصادية، ليشكلا قاعدة قوية للمنافسة. فالحرس الثوري يشرف على المشروع النووي وصناعة الصواريخ، ولديه بنوك وشركات نفط ومؤسسات أشغال عامة ومؤسسات خيرية، تعمل داخل إيران وخارجها.


رئيس مناسب للمرشد

وقد نجح المرشد علي خامنئي في قيادة إيران إلى بر الأمان بعد وفاة خميني، إلا أن هذا التطور الجديد -وهو هيمنة خامنئي على الشرطة وعلى مؤسسات القرار مثل مجلس صيانة الدستور وعلى رئاسة البرلمان وإعطائه دور أكبر للمؤسسة العسكرية في الحياة العامة وخاصة الحرس الثوري- قد ساهم شيئا فشيئا من إثارة هواجس القيادات الدينية والسياسية في إيران من تحول هذا الجهاز الأمني، إلى جهاز شبيه بجهاز الشاباك في العهد الشاهنشاهي، ومن رحم هذه الهواجس -وهواجس أخرى غيرها- خرج ما يسمى بـ " التيار الإصلاحي"، الذي تزعمه محمد خاتمي الرئيس الإيراني السابق، وهو حجة الإسلام وابن أحد الآيات وأحد الذين شاركوا في الثورة وكان مرضيا عنه أيام الخميني حيث عينه وزيرا للثقافة والتوجيه الإسلامي عام 1982 -وهو بالمناسبة زوج ابنة الإمام الخميني.
ولمواجهة تنامي قوة وشعبية هذا التيار الإصلاحي المعارض في إيران ومطالبة زعمائه بتفعيل دور رئيس الجمهورية المنتخب، وبزيادة صلاحياته، خاصة بعد تجربة زعيم التيار الإصلاحي (محمد خاتمي) في رئاسة الجمهورية لفترتين متتاليتين مدة كل منهما أربع سنوات (1997- 2004) دون أن يكون له صلاحيات حقيقية تعكس مركز ومكانة هذا المنصب الكبير الذي يعتبر من يشغله هو الرجل الثاني في إيران -نظريا على الأقل- بعد المرشد العام، فقد سعى المرشد العام للجمهورية الإيرانية لكي يقطع الطريق عليهم، إلى السيطرة على رئاسة الجمهورية التي يطمح الإصلاحيون في الاستئثار بها ومن ثم الوقوف من خلالها في وجه قوة المرشد.
ووفقا للتوجه الجديد من قبل المرشد فقد أريد لمن يتولى منصب رئاسة الجمهورية، أن يكون منسجما مع المرشد العام، إن لم يكن أداة طيعة بيده، ولكن بما يحقق طموح ورغبة من يقبل أن يكون كذلك من عشاق السلطة والسياسة، وذلك طبقا لنظرية " الرجل المناسب لي في المكان المناسب له". وهي نظرية مألوفة ومطبقة في الكثير من البلدان ذات الأنظمة المستبدة سواء كانت ملكية أو جمهورية وخاصة في منطقتنا العربية.
وهذا ما تجسد بالفعل من خلال الرئيس أحمدي نجاد الذي وصل إلى سدة الحكم بدعم من علي خامنئي والحرس الثوري بانتخابات "مدبرة" أجريت في العام 2005، بإشراف أجهزة ومؤسسات سلطوية تخضع مباشرة للتيار المحافظ، وأعيد انتخابه بدعم من المرشد والحرس الثوري أيضا في 12يونيو2009، والتي كانت نتائجها سببا رئيسيا للأحداث الجارية في إيران في الوقت الراهن.

ترسيخ الديكتاتورية العسكرية

وكان أحمدي نجاد بعد أن تولى مقاليد الرئاسة في إيران قد أعطى دور أكبر للمؤسسة العسكرية، وخاصة الحرس الثوري، حامي حمى الثورة الإيرانية، والحارس الأمين عليها، والمنوط به تصديرها، وعصب النظام الحالي بملايين المسلحين وأحدث الأسلحة، فعزز نجاد من سيطرة هذا الجهاز أمنيا واقتصاديا، وامتدت هذه السيطرة لتشمل كل مواقع القرار والسلطة في إيران، تحت شعار "أحياء الثورة الخمينية" والعودة إلى إستراتيجية تصديرها للخارج، وذلك على حساب نفوذ المؤسسة الدينية، الأمر الذي جعل هذا الجهاز الأمني يكثف من نشاطاته العسكرية، بل وينخرط في الأنشطة التجارية، وبيع النفط لحسابه وشراء كل شيء لحسابه، وبيعها في الأسواق، في السنوات الماضية، وذلك من أجل أن يلبي الإنفاق الضخم على برامجه التسلحية وصناعة الصواريخ. إلى جانب تلبية نفقات الاستعراضات العسكرية وتجارب الصواريخ التي تحمل أسماء لها دلالات دينية، والتي هي أساسا رسالة موجهة للداخل والخارج، مفادها خلق انطباع بأن هذه القوة العسكرية الإيرانية تتطور بشكل لم يسبق له مثيل.
وما يجري حاليا في إيران من مظاهرات وأعمال شغب على خلفية نتائج الانتخابات الإيرانية التي جرت مؤخرا، ليست معارضة لنظام الثورة، ولا من اجل المطالبة بحريات اكبر وانفتاح على دول الجوار الإقليمي، وبرامج سياسية مختلفة داخليا وخارجيا. وهي ليست موجهة ضد الرئيس أحمدي نجاد بذاته، وإن كانت الانتقادات والكلمات البذيئة موجهة لأم رأسه، فأحمدي نجاد، إنما يتحرك في الخط الذي رسمه له المرشد العام. وهجوم نجاد على رفسنجاني مؤخرا واتهامه وعائلته بعدم النزاهة أمام وسائل الإعلام، تم بموافقة مرشد الجمهورية علي خامنئي.
وعلى ذلك يمكن القول أن الاحتجاجات الحالية موجهة ضد المرشد أو الولي الفقيه، أكبر رأس في الجمهورية الإيرانية والقابض -أمنيا وبيروقراطيا- على أَزِمَّة السلطة الحقيقية فيها.
وقد أكد المرشح الخاسر محسن رضائي، القائد الأسبق لحرس الثورة، الذي سحب شكواه بخصوص نتائج الانتخابات أن ما يجري لم يعد قضية انتخابات رئاسية، إنما هو أبعد من ذلك بكثير، في إشارة مباشرة إلى أن المقصود هو موقع «الولي الفقيه»، وأن نتائج الانتخابات ما هي إلا واجهة لمعركة أكبر يحركها الإصلاحيون ضد التيار المحافظ.
ولكون رضائي محسوب على المحافظين، ولم يكن دخوله الانتخابات الرئاسية بهدف الفوز، وإنما بهدف تشتيت الأصوات على مير حسين موسوي، كما قال المحللون السياسيون، فقد رأى البعض أن هذا التصريح يأتي في إطار الخطاب الإعلامي الرسمي لمواجهة الأزمة القائمة، ولتبرير قمع المظاهرات والبطش بالجماهير من قبل الحرس الثوري. هذا الجهاز الأمني الرهيب الذي خرج من موقعه كقوة لحماية النظام، تحت شعار حماية الجمهورية ومبادئ الثورة الإسلامية.


صراع الأخوة الأعداء

ذلك أن الخلاف الحقيقي هو بين علي أكبر هاشمي رافسنجاني رئيس مجلس الخبراء، الممثل للصف الديني، وبين قيادة الجمهورية الإسلامية التي يمثلها المرشد علي خامنئي، المستند إلى قوة المؤسسة العسكرية والأمنية الضاربة. وهو الخلاف الذي بدأ منذ وصول نجاد إلى السلطة في عام 2005، متغلّباً على رفسنجاني المنافس الرئيسي في تلك الانتخابات، بعد حصول نجاد على دعم وتأييد المرشد، الذي كان قد مل من قوة هاشمي رافسنجاني، وكان ترجيحه لكفة نجاد في منصب رئاسة الجمهورية على حساب رفسنجاني الذي يدعي الفضل عليه، صفعة قاسية لهذا الأخير، ومفاجأة مدوية ما زالت آثارها تتفاعل حتى اليوم.
ويرى المحللون أن هاشمي رفسنجاني هو الذي أعطى الضوء الأخضر للإصلاحيين لتحدي المرشد الأعلى، أي لتجاوز أحد أهم الخطوط الحمراء التي كانت مقدسة في السابق في إيران، لتأخذ المعركة التي كانت خفية بينهما طابعا علنيا مكشوفا، لم يعرف له مثيل من قبل.
فرفنسنجاني المعروف بانتهازيته وبنظرته البراجماتية، والذي ركب موجة الشارع الإيراني الثائر وتحالف مع كبار الإصلاحيين، وهو المعتبر من المحافظين - يسعى بما يملكه من قدرات مالية ونفوذ سياسي يتمثّل في رئاسته لكل من مجلس خبراء القيادة، ومجلس تشخيص مصلحة النظام، وهما من أهم مؤسسات الدولة والنظام السياسي، في إيران، يسعى لتحجيم مكانة المرشد وتهميش دوره، -دون إزاحته من الواجهة بطبيعة الحال- وذلك بالتعاون مع بعض الآيات ورجال الدين في المؤسسة الدينية وخاصة في "حوزة قم" بما تملكه من ثقل روحي ومعنوي، والتي نجح فريق رفسنجاني -موسوي- خاتمي، في اختراقها، وفي استمالة مرجعيات كبرى فيها مثل آية الله منتظري وصانعي، وغلبا كياني، وزنجاني، والذين تم تأليبهم من خطر لجوء خامنئي إلى العسكر الذين سيسيطرون على الثورة الإسلامية مباشرة. وهذا إضافة إلى انضمام الخاسرين الآخرين وخاصة مهدي كروبي إلى المنددين بنتائج الانتخابات. بل وصلت الاختراقات -وإن في نطاق محدود جدا- إلى الحرس الثوري ذاته، وهو المصنع الذي أنتج كل من مير حسين موسوي واحمدي نجاد، اللذَيْن تنافسا على منصب رئاسة الجمهورية في الانتخابات الأخيرة.


رأس خامنئي على المحكّ

واتهم مير حسين موسوي المعترض على فشله في الانتخابات اتهم المرشد الأعلى، من دون أن يسميه، بتهديد أسس الجمهورية الإسلامية، والعمل على فرض نظام سياسي جديد، وهو انتقاد لم تجرؤ أي شخصية سياسية من قبل على توجيهه الى خامنئي.
وفي الوقت نفسه فإن المرشد علي خامنئي الذي يعتبر القوة الرئيسية في البلاد والذي يعتبر عمليا المشرف الأكبر على الجيش والشرطة والحرس والباسيج وأنصار "حزب الله" والقضاء والإذاعة والتلفزيون، يسعى -وأيضا بمساعدة بعض الآيات وعلى رأسهم آية الله مصباح اليزدي، الأب الروحي لأحمدي نجاد، والمتطلع لوراثة خامنئي- يسعى لتعزيز دور المرشد العام كقطب في نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وعدم المس بصلاحياته، ولو أدى ذلك إلى الارتماء أكثر فأكثر في أحضان المؤسسة العسكرية والأمنية وخاصة الحرس الثوري، وذلك كتعويض عن ابتعاد المؤسسات الدينية عنه. الأمر الذي يشير إلى أن الحرس الثوري سيكون هو المستفيد الأكبر من وراء هذه الأحداث في نهاية المطاف. كونها قد خلقت -وستخلق- أوضاعا تسمح له بأن يضع يده على مقدرات الدولة ومؤسساتها، وان تكون له الكلمة النهائية.
ويرى المطلعون العارفون بالشأن الإيراني أن الأزمة القائمة في إيران في الوقت الراهن لن تنتهي إلا بسقوط واحد من أكبر شخصيتين في الجمهورية الإيرانية يكنان لبعضهما عداء شديدا. وهما علي خامنئي، وعلى أكبر رفسنجاني اللذان أوكل إليهما الإمام الخميني قبل موته أمانة المحافظة على الجمهورية الإسلامية، وأوصاهما بالتعاون مع بعضهما وعدم الاختلاف.
وإذا تراجع على خامنئي المرشد العام للجمهورية الإيرانية أمام الضغوط الشعبية التي تحركها المعارضة، والمطالبة بإعادة الانتخابات، فإن هذا سيكون انتصارا لرفنسنجاني ومنتظري، وسيكون في هذا التراجع نهاية لخامنئي، وقد يضطر بعدها للاستقالة وخسارة البيعة. وبإمكان مجلس الخبراء -وهو المؤسسة الدستورية المخولة بانتخاب وتعيين وعزل المرشد الأعلى- الإطاحة به، وبخاصة أن هاشمي رفسنجاني يترأس هذا المجلس ويسيطر على ثلث أعضائه الثمانين.
وسواء أطيح بخامنئي أو رفسنجاني فعلى الأمة أن لا تتوقع خيرا من وراء ما يجري في إيران من قبيل رفع ويلات الظلم والبطش عن أهل السنة في إيران، والكف عن التأمر على الجهاد والمجاهدين في العراق وأفغانستان، والامتناع عن تصدير التشيع إلى المنطقة.
وإذا كان سيكون هناك من تأثير لذلك الصراع فسيكون في عرقلة تلك المشاريع الإيرانية المشبوهة وإرباكها بصورة مؤقتة أي في الأجل القصير فقط. والأهم من ذلك هو أن تراهن الأمة على تغيير ذاتها وواقعها لما هو أحسن.
المصدر: مجلات، مواقع الكترونية، قنوات فضائية.

تجديد المفاتيح بشكل دائم ومستمر باذن الله تعالى